لطالما راودتني أسئلة في كل مرة قرأت سير الأعلام والتراجم في فواتح الكتب القديمة أو في فهارس الأسماء لشخصيات عاشت قبل 600 عامٍ، وما تركوه لنا من إرث تعددت جوانبه، بل وأجادوا فيه حتى أعطونا من المعارف ما يؤخذ به إلى يومنا هذا.

قائمة تلك الأسماء طويلة، لكن نورد منها بدايةً بأكثر رجل أثّر في علوم البصريات والتصوير الضوئي، وهو العالم الموسوعي، الحسن بن الهيثم، الذي ترك لنا نتاجه في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وطب الأعين والفلسفة العلمية والإدراك البصري، والثاني هو الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن سينا، الذي برع في الطب والفيزياء والفلك وعلوم الأرض وعلم النفس والفلسفة وعلم المنطق وعلم الكلام والأدب والشعر وعلوم الدين، وحتى الموسيقا وفيزيائها، وأما الثالث فهو أول مخترع للإنسان الآلي أو الروبوت، بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجَزري، الذي كان رئيس المهندسين في دياربكر (آمد)، وقد أجاد في الهندسة والرياضيات والميكانيك والفلك والموسيقا.

وكما يُقال عن أصولهم، فالأول عربي والثاني فارسي والثالث كُردي، فمن الواضح أن هذا التعدد والتشعب في العلوم ليس له علاقة بعرق ما، وأنه بإمكان أي باحث أو عالم في بيئة مناسبة أن يجتهد ويقدم للبشرية المعارف في أكثر من مجال أو تخصص، ولا أعتقد أنهم فُضّلوا على الناس وبرزوا إلا لأنهم اجتهدوا وليس لأن لديهم قوى خارقة.

ومن المُلفت أن للكثير منهم منهجه العلمي أو الفلسفي الخاص، وكأنها أداته ليتعلم كيفية التعلم وينهل المعرفة ويجتهد ويحقق ويمحّص ويستنتج ويوثّق ويدوّن، لكن أكثر ما لفتني أن هؤلاء أجادوا في أكثر من مجال بكل براعة وكانت الظروف وقتذاك أصعب بكثير مما يتوفر لدينا اليوم، فلم يكُ هناك أدوات طباعة وكانت الكتب صعبة المنال قد يتكبد المرء مشقة السفر والإقامة في مدينة أخرى ريثما يقرأ كتاباً ما لدى أحدٍ فيها أو بمكتباتها، أو يطلع على مرجعٍ ويدوّن ملاحظاته، أو أن ينسخه بخط يده إن لم يقدر على شراء الكتب لأنها باهظة الثمن بسبب تكاليف الورق والوقت في النسخ اليدوي ونقل الرسومات والشروحات، مقارنةً بسهولة توفر الكتب اليوم وبأسعار أقل بكثير.

كذلك لم يتوفر لهم محركات البحث مثل غوغل الذي نلجأ إليه، أو موسوعات مثل ويكيبيديا، بل ولم يعتمدوا على أجهزة كالتي بين أيدينا والتي نخزّن عليها آلاف وأحياناً ملايين الكتب الإلكترونية، ولم يحظوا بالكهرباء أصلاً، ناهيك عن قلة المختبرات ومعداتها ولوازمها، وهذه مجرد أمثلة عن التحديات التي كانت في تلك الأيام مقارنة بحالنا اليوم، وبالرغم من ذلك فقد تمكنوا من التخصص في أكثر من مجال، وبعضها بعيدة عن بعض، كأن يجمع عالمٌ بين الفلسفة وعلم الفلك والطب والموسيقا.

نشأة التصوير الضوئي ومحاوره

وما أسلفناه هو دليل على قدرة العقل البشري على تقديم الكثير في عدة مجالات، فكيف بنا إن تحدثنا عن تشعبات مجالٍ واحد فقط، وهو موضوع مقالنا هذا، محاور فن التصوير الضوئي، ولنلقي القليل من الضوء على تاريخه.

بين العامين 1822 و1825 نجحت محاولات إنتاج أول صورة ضوئية (فوتوغرافية) على يد المخترع الفرنسي نيسيفور نييبس Nicéphore Niépce ومن هنا انطلقت لدى البشرية المسيرة وتعددت الدوافع والأغراض من القيام بالتصوير، فغالباً كان للتوثيق، كتصوير الشخصيات، أو المدن و المعالم، أو المناسبات والفعاليات المهمة، وكان الأمر مكلفاً من ناحية الوقت والمادة، لكن مع مرور الوقت تطورت آلات التصوير وبالتوازي مع ذلك تطورت وتعددت الأغراض، فدأب المصورون على تصوير العديد من المواضيع وتصنيفها في محاور رئيسية ثم محاور فرعية ومن أبرزها اليوم:

تصوير الشخصيات (بورتريه)، التصوير الصحفي، المدن، حياة الشارع، حياة الناس، الفعاليات، الحياة الفطرية أو الحياة البرية، الحيوانات، الطير، المناظر والطبيعة، الفلكي، المِجهري أو المُقرّب (ماكرو)، البيئة تحت مائية، المعماري (الخارجي والداخلي)، الحياة الصامتة، الأطعمة، الأزياء، المنتجات، الطبي، والتصوير المحيطي (بـ 360 درجة)، وحتى تصوير مسرح الجريمة، وغيرها من المحاور.

مما يُلاحظ في مدارس التصوير اليوم، أن كوادر التعليم يحملون المصورين الجدد على اختيار محور واحد والتركيز عليه بعد تعلم الأساسيات، بل وفي الكثير من الأحيان يتبنّون نفس النمط والأسلوب، فتكون النتائج متشابهة إلى حدٍ بعيد.

وليس الأمر بغريب، فهو امتداد لأنظمة ومناهج التدريس الرسمية والإلزامية، حيث نجد المدرسين يطلبون من التلاميذ الصغار أن يذكر كل منهم المهنة التي يرغب بها في المستقبل، وباعتقادي هذا ليس منحٌ لحرية الاختيار، بل هو حَصر وإرغام التلميذ على اختيار أمر واحد فقط! في حين أن بمقدور المرء القيام بعدة أمور، لكن هذا هو الغرض من أغلب المناهج، تصميم الأفراد حسب حاجة أصحاب القرار، لا سيما في الدول ذات الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية).

وأعتقد أننا شهدنا ما أنجزه الكثير من الشخصيات المعروفة من الذين تركوا التعليم النظامي وأخذو يتعلمون بأساليب أخرى واجتهدوا وتشعّبوا في العديد من المجالات.

هذه ليست دعوة لترك هذا التعليم، لكنها دعوة لنهل العلم والاجتهاد خارجه أيضاً

التخصص أم التشعّب؟

وبالعودة إلى صُلب موضوعنا، والسؤال الذي يُطرح دائماً “هل على المصور التخصص في محور ما، أم يتشعّب؟” أعتقد أن أفضل مقاربة للإجابة على هذا السؤال هو مثالٌ عن الموسيقا، إذ بإمكان عازف آلة الغيتار أن يستخدم نفس الأداة لعزف الألحان الكلاسيكية الفلامنكو الجاز البلوز الروك الميتال الكاونتري والبوب…إلخ لأنه عملياً بإمكانه التدرب على أسلوب أي نمط وعزف لحنٍ منه، هي مسألة ممارسة، لكن يبقى هنالك نمط أو اثنان أقرب إلى قلبه فيُبدع فيما يحب أكثر من غيره، وإن كان قادراً (عملياً) على عزف بقية الأنماط، فللبعض منها خصائص مشتركة كالضرب بالريشة أو الأصابع أو جُمل موسيقية مشتركة.

وعلى غرار ذلك فبإمكان المصور أن يلتقط صوراً من محاور مختلفة، لكن ثمة ما يميل قلبه إليه، فيهتم به ويمضي وقتاً أطول في ممارسته ويتغذى بصرياً بمشاهدة وقراءة أعمال من هذا المحور، وبالتالي يكون نتاجه مثمر ونوعي أكثر مقارنة بباقي المحاور، لكن ذلك لا يعني أن ليس بمقدوره الخوض في أكثرها.

دائماً أحثّ المصورين على الخروج عن إطار المناهج التقليدية في أي شيء يتعلمونه بعد أن يتشبّعوا به، وأن ينتقلوا إلى مرحلة استسقاء المعلومة والخبرة من أماكن أخرى، خصوصاً وأن شبكة الانترنت غزيرة بالمحتوى الذي يقدمه الكثير من المُعدين، وطيفٌ كبير منهم يقدمون المعلومات بأسلوبهم ولمستهم، وهذا يُثري مرجعية المصور ومكتبة وعيه وأفكاره.

غالباً حين يركّز المصور على محور واحد، سيصل إلى مرحلة يكُرر فيها ذاته، وستبدو أعماله متشابهة وسيفتقد الإبداع في صوره، بَيد أن استكشاف أنماطٍ أخرى يساعده على إيجاد أفكارٍ وتقنياتٍ وأساليب جديدة في محوره المفضّل، وعلى صعيد آخر، فإن فئة الذين يتخذون التصوير كمهنة، غالباً تُلقي محددات السوق واحتياجاتها بظلالها على نتائج أعمالهم، لذلك ستفتقد صورهم الروح الفنية مقارنةً بالذين يصورون بدافع الشغف، وقد نجد فئة من المصورين المهنيين شغوفين بالفن، وهم الذين يقومون بالتجديد الدائم وتقديم أفكار جديدة في الفضاء المهني، ثم تقوم الفئة الأولى بتقليدهم.

استكشاف محاور جديدة

الأمر ليس بالصعب، فمثلاً مصورو الحياة الفطرية أو الحياة البرية، يقضون جُل وقتهم في الطبيعة لتصوير الحيوانات، وبذات المعدات بإمكانهم تصوير الطير، أو تصوير المشاهد الطبيعية، والنباتات، بدلاً من التركيز فقط على الحيوانات البرية، ولا مانع من أن يُبدّل عدسته الأعرض بعدسته بعيدة المدى، ويصور حياة الشارع في المدن والقرى التي يمر بها أثناء السفر إلى بلدانٍ مختلفة كما يفعل أكثرهم، ففي الشارع ثمة نبض وإيقاع بين سكون المباني وحركة الحياة، ووجوه الناس وسلوك الكائنات الأليفة والأنعام، هي مسألة تجربة شيء جديد وإطلاق العنان للمخيلة.

إن هذا التنويع في المواضيع يُغذي خيال المصور، ففي بعض الأنماط يتطلب الأمر الصبر والتريث لاقتناص اللحظة لمشهد يركز في حيّزٍ منه، وفي غيرها يحتاج اليقظة والتصوير في أجزاء من الثانية والتنبّه إلى كل ما يدور حوله وليس فقط ما يحدث أمامه، كل هذا يُزكّي الحدس وسرعة البديهة.

هذا بالإضافة إلى تنويع الأساليب في الصورة من أكثرها صخباً وغنى بالألوان والعناصر، إلى التي يطغى عليها طابع التبسيط والتجريد واعتماد التصوير بالأبيض والاسود، وكل ما بين ذلك، إلى جانب إتقان مهارات المعالجة الرقمية التي تُعطي في بعض الأحيان بُعداً جديداً للصورة، خصوصاً في نقل اللقطة من مشهد عادي ومألوف إلى دراميٍ أقرب للخيال لكي تتميز الصورة.

معالم الصورة

لكن لا يقف الأمر عند هنا فحسب، ففي نهاية المطاف الصور هي قصة ورسالة، وعلى المصور أن يبني خلفية ثقافية ويجمع المعلومات حول الموضوع الذي يصوره، فيتوجب عليه تذوق الموسيقا بعدة أنماط، وقراءة الأدب والشعر، والاطلاع على التاريخ الإنساني والحضاري والفلسفي، ومعاني الرموز، وتاريخ الفن ومدارسه وأساليبه وقواعده، التي ما يلبث أن يتقنها حتى يقوم بكسرها (وهذا موضوع مقالٍ لاحق)، وأن يقرأ  تجارب ونصائح المصورين الآخرين، عندها تبدأ ملامح أسلوبه الشخصي بالظهور، خصوصاً وأنه قد تَعلَّم كيفيّة التَعلُّم، وأدرك من أين تؤكل الكتف، وكل ما ذكرناه آنفاً لا يتحقق إلا بالشغف والممارسة.

نمط الحياة اليوم يكاد يكون مُصمماً للناس، لكن الذات البشرية وتكوينها لا تختلف عن تلك التي مكّنت الكثيرين في السابق ممن ذكرناهم في بداية المقال، والذين يغردون خارج سرب نظام التعليم التقليدي، من التشعّب في الكثير من الأمور والنجاح فيها، بصرف النظر عن جنسهم أو عرقهم أو زمانهم، لدى الإنسان طاقات هائلة لا تبرز إلا إذا سلك طريقاً لا يُحجّمه وينتهج الحرية، تماماً كما يفعل العازف المنفرد في أوركسترا.

قال مُحي الدين ابن عربي “العلمُ بحرٌ ما له من ساحل …. عذبُ المشارب حكمه في النائلِ“.