استهل الأديب والفيلسوف والعالم الجاحظ كتابه “التبصّر في التجارة” بحكمٍ من بعض الشعوب، فكتب لنا
قالت الروم: إذا لم يرزق أحدكم في أرض فليتحوّل إلى غيرها.
وقالت الهند: ما من شيء كثر إلا رخص، ما خلا العقل فإنه كلّما كثر غلا.
وقالت العجم: إذا لم تربحوا بتجارة فاعتزلوا عنها إلى غيرها.
وقالت الفرس: الرابح في كلّ سوق هو البائع لما ينفق فيها. ويا أيها الإنسان ليس بينك وبين بلد أنت فيه نسب!
وقالت العرب: إذا رأيتم الرجل قد أقبلت عليه الدنيا فألصقوا به فإنه أجلب للرزق.

شأن الكثير من الأمور في حياتنا اليوم والتي تمر بمسارات الأنظمة الاقتصادية، فإن مجال الفنون البصرية يتعرض إلى حد كبير لمتغيرات ومُحددات السوق، بمعنى أن الكثير من الأمور قد أصبحت صناعة بشكل من الأشكال، كما حدث للسينما والرياضة والموسيقا وحتى الأدب في بعض الحالات، دائماً هنالك فئة مبدعة أو موهوبة، وفئة تتلقى هذا النتاج الإنساني، وبينهما مُشغّلو هذه المجالات ومستثمريها كمنظمي الفعاليات ومنتجي الأفلام ودور النشر، وقد أسهموا في بدايات ظهروهم في إنعاش وتمكين هذا النتاج الإنساني، إلى أن تسللت ذهنية التربّح الجائر وتحصيل أكبر قدر من المال مقابل استثمارِ ثمنٍ أقل وأحياناً بخس في هذا النتاج، وهنا برزت ملامح استغلال المستثمرين للمبدعين والموهوبين، وتكوّنت الصناعة بوجهها التجاري، ومع مرور الوقت تفاقمت هذه المعضلة (لكن دائما يجدر القول “إلا ما رحم ربي”).

وقد طال الأمر الفن البصري والتصوير الضوئي، فعمدت الكثير من دور العرض إلى استغلال الفنانين وأعمالهم ونتاجهم، وأخذت أحياناً تفرض عليهم نمطاً معيناً، وهذا من أبرز أسباب ظهور الصيحات “الموضة” والنمطية في النتاجات تلك، فأدى ذلك إلى تشابه الكثير من أعمال المعارض الفنية، وكان أحياناً لبث بعض الرسائل المشتركة في الكثير منها، أو لرسم ملامح الذوق العام لدى المتلقين والمشاهدين والقراء، أو لخدمة توجهات أيديولوجيا معينة أو دعاية “بروباغندا” محددة، وطبعاً يكون النصيب الأكبر من عائدات بيع الأعمال للمستثمرين أو من أسميناهم مشغلو الصناعة هذه، وأصبح حال الفنان والأديب مأسوفاً عليه في بيئة أقرب إلى الذهنية الاستهلاكية.

وفي ظل كل هذا وذاك، ولأن الفنان محب للحياة، سيبحث دائماً عن سُبلٍ بديلة، وفرص جديدة، ويتمسك بكل خيط أمل يحفظ له مكانته ومكانة أعماله، فيتحسّن وضعه المادي ويكسر القيود التي تفرضها دور العرض ويطلق الحرية لأفكاره وأعماله.

بعيداً عن هذا الواقع، بدأ واقع افتراضي في الجيل الثالث لشبكة المعلومات (ويب 3) بالتبلور والتكوّن، مُفسحاً المجال للفنانين للولوج إليه بعيداً عن بيئة صناعة الفن واستغلالها وقيودها، إنه عالم الصكوك غير القابلة للاستبدال (أو كما يسميها البعض الرموز غير القابلة للاستبدال – لكن يبدو لي اصطلاح “رموز” من الأخطاء الشائعة) أو ما تعرف بالانجليزية Non-Fungible Token واختصاراً NFT، وكذلك عالم الميتافيرس أو الكون الماورائي Metaverse.

ولعل هذه المصطلحات قد ترددت على مسامعكم مؤخراً، ورأيتم كيف يتم بيع صور أو رسومات رقمية بسيطة التفاصيل، أو دقيقة ومعقدة، لقاء مبالغ تربو أحياناً على ملايين الدولارات وبشكل يومي وعلى مدار الساعة، وعمليات البيع والشراء هذه بازدياد مستمر مع دخول المزيد من الفنانين وجامعي الأعمال الفنية في هذا الميدان، من باب الاستثمار فيها أو لاستخدامها في تطبيقات العالم الافتراضي والميتافيرس.

ماهي الـ NFT والبلوكتشين؟

وقبل الشروع في الحديث عنها بإسهاب لنشرح بعض هذه المصطلحات، فما هي إن إف تي NFT أو الصِّكوك غير القابلة للاستبدال؟ لنقل أن لدينا صورة ضوئية “فوتوغرافية” فبإمكاننا رفع هذه الصورة على شبكة الإنترنت، وتحديداً على شبكة تُخزَّن بياناتها على عدد كبير (ربما مئات الآلاف) من أجهزة الكومبيوتر المتصلة ببعضها مُشكلةً الما يُعرف بشبكة سلسلة الكُتل أو البلوكتشين Blockchain والتي هي بمثابة سجلات متعددة النسخ، وعند رفع هذه الصورة عليها يتم إدخال بياناتها وخصائصها، من معلومات ملف الصورة كالحجم والأبعاد والألوان، كذلك لمن تعود ملكية هذه الصورة، وملكية الحقوق الفكرية، السعر المُحدد للمبيع، وغيرها من البيانات، كل هذا وذاك يُجمع في الما يُعرف بالعقد الذكي Smart Contract الخاص بهذه الصورة، والعملية هذه برمتها تُسمى بالصَّك Minting، وينتج عنها صِّكٌ لهذه الصورة وهو مُتاحٌ للبيع والشراء بالعملات الرقمية المشفّرة، وبعبارات أخرى، الفنان يقوم بصك أعماله الفنية وكأنه يصنع عملته النقدية، ويحدد قيمتها الأولية بنفسه، وترتفع أو تنخفض هذه القيمة حين يتداولها الآخرون، والأمر أشبه إلى حدٍ ما بصك النقود المعدنية في عالمنا الواقعي.

الشاري أو المالك الجديد لهذا الصِّك، إما عبر الشراء المباشر أو المزادات، يحصل عليه ويُسجّله باسمه في محفظته الإلكترونية، وغالباً ليس له حقوق الملكية الفكرية (إلا إذا منحها المصوّر من خلال ذكر ذلك في العقد الذكي).

وقد يتساءل أحدكم، ماذا يستفيد الشاري من صِّك الصورة إن لم يكُ بإمكانه طباعتها وبيعها والاستفادة منها في الواقع الحقيقي؟ فنُجيب بأنه يحق للشاري بيع هذا الصِّك بسعر أعلى فيما بعد، لتنتقل ملكيته إلى شخص آخر ويحقق بذلك ربحاً، أو أن يعرضه في المعارض الافتراضية، أو يضعه في منزله أو مكتبه الافتراضي في الميتافيرس ويشاهده الحضور، أو أن يستخدمه في الألعاب الإلكترونية المبنية على الميتافيرس.

ومن الإشارة بمكان أن كل عمليات البيع والشراء والنقل تبقى محفوظة في سجلات شبكة سلسلة الكتل (البلوكتشين) ويمكن لأي شخص الاطّلاع عليها عبر منصات هذه الشبكة، أو بإلقاء النظر على سِجل العمليات في العقد الذكي لصِّكٍ ما.

ما هو الميتافيرس؟

وكي لا تفوتنا ماهية الميتافيرس، تلك العبارة التي أخذت مؤخراً هي الأخرى صدىً واسعاً، فهو مصطلح من مقطعين “ميتا” Meta ما ورائي باللاتينية، و”فيرس”  Verseاقتطاعاً من الكلمة “يونيفيرس”Universe  أي الكون، وبدمجهما يكون لدينا ميتافيرس Metaverse بمعنى الكون الماورائي، وهو عالم افتراضي إذا أردنا تبسيطه فبإمكاننا القول أنه مثل الألعاب الإلكترونية التي يلج إليها اللاعبون من حول العالم عبر شبكة المعلومات الإنترنت ليكونوا على تواصل من خلالها، ويتحكم اللاعب فيها بشخصية يتنقّل بها من مكان إلى آخر، ويقوم بعدد من النشاطات كحلّ الألغاز أو مجابهة الأخطار والأعداء وقراءة المعلومات، وكأن اللاعب بها يغوص في غمار عالم هذه اللعبة، مبدياً اهتماماً أقل بالوسط المحيط به في الواقع، بيد أن عالم الميتافيرس بات أوسع وأعمق، فعلى غرار عالم الألعاب، بإمكاننا في عالم الميتافيرس وضع النظارات ثلاثية الأبعاد والسماعات وحمل أجهزة التحكم، فننفصل بوعينا عن العالم الواقعي ونعيش تجربةً غامِرة، نشتري فيها الأشياء ابتداءً من الأراضي الافتراضية والعقارات، والمعدات والألبسة والأحذية الرياضية وحتى مستحضرات التجميل للشخصيات التي نتحكم بها، وكل هذا على شكل صكوك غير قابلة للاستبدال NFT يبتاعها المستخدمون بالعملات الرقمية المشفرة.

وبالمجيء على ذكر بعض استخدامات الميتافيرس الأخرى غير الألعاب، ففيه تُقام معارض فنية، وحفلات موسيقية، ومؤتمرات علمية وأكاديمية، وحتى معارض تجارية تُعرض فيها المنتجات والخدمات على شكل صور أو مقاطع مرئية أو مجسمات ثُلاثية الأبعاد وتفاعلية، ويبلغ حجم الإنفاق اليوم في الميتافيرس مليارات الدولارات.

وفي الأشهر الماضية أخذت الكثير من الشركات العالمية بالتهافت على هذا الفضاء الجديد كنوع من الاستثمار في المستقبل، ومنها أديداس ونايكي وفيسبوك التي غيرت اسم الشركة الأم إلى “ميتا” Meta تناغماً مع عصر الميتافيرس، وحسب بلومبيرغ فإن حجم الإنفاق فقط في مجال NFT من بداية العام 2021 حتى منتصف كانون الأول\ديسمبر بلغ قرابة 41 مليار دولار.

أكاد أجزم بأن البعض منكم يظن هذا ضرباً من الجنون، وهذا يعيد إلى الأذهان ما اعتقده الكثيرون حيال عالم الإنترنت وإرسال الرسائل الإلكترونية بدلاً من الورقية في ثمانينات القرن المنصرم! نعم، نحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من استخدامات التقنية بمحاسنها ومساوئها، وربما نتذكر هنا قول أرسطو “إن الصواب في اختيارنا لغاية ما منوطٌ بالفضيلة”.

أين الفنانون من كل هذا؟

انكبّ العديد من الفنانين يصكّون أعمالهم الفنية في الرسم والتصوير والتصميم والمقاطع المرئية، وحتى النحت وغير ذلك من الفنون البصرية على سلاسل الكتل (البلوكتشين)، وقد أخذ التصوير الضوئي حيّزاً كبيراً في هذا الميدان، فتشكلت مجتمعات على تويتر وكلوب هاوس وعدد من شبكات التواصل الاجتماعي لتداول المواضيع المتعلقة بالتصوير الضوئي، فما يلبث أن يدخل مصور مستجد في فضاء الـNFT  في إحدى المحادثات في “مساحات تويتر” حتى يلقى ترحبياً وتشجيعاً من الرواد الذين جُلُّهم من المصورين والفنانين، فيجيبون على كل التساؤلات والاستفسارات، ويسدون النصائح لهذا الفنان القادم حديثاً إليهم، ويساعدونه على ترويج أعماله بعد أن يقوم بصكها على سلسلة الكتل، ويأمنون التواصل بينه وبين مقتني صكوك الأعمال الفنية والذين يُعرفون باسم NFT Art Collectors أو NFT Collectors، وقد يكون البعض منهم أيضاً مصوراً لكنه إما أُعجب بعمل ما، أو يريد دعم المصورين الهواة أو المحترفين في بلده أو ببلدٍ نامي، أو قد وجد فرصة في شراء عمل لمصور عالمي، أو اقتناء صورة حصلت على جائزة دولية ليبيعها بثمن أعلى فيما بعد.

ويقوم بعض المصورين اليوم بمنح نسخة مطبوعة من الأعمال التي تُباع لأوائل المشترين، وذلك لإضفاء قيمة ملموسة وبُعداً واقعياً أيضاً على هذه العملية، بغرض تشجيع المقتنين على شراء صكوك أعمالهم.

ولا تقتصر المحادثات تلك على نشر الأعمال فحسب، بل تدور أحاديث حول التجربة الفنية للمصور، أو سرد قصة صورة ما، أو الأساليب والتقنيات المتبعة في التقاطها، كذلك يأخذ الحوار منحى فنياً نقدياً بُغية تعزيز ثقافة الفن وتبادل الأفكار وحثّ الزملاء المصورين على تطوير مهاراتهم.

باختصار، هذا هو المكان الذي وجد فيه الكثير من المصورين والفنانين البصريين ضالتهم بين أقرانهم بكل رحابة صدر، فأعمالهم الفنية تحظى باحترام هنا، وكأن هؤلاء أدركوا ما جاء به الجاحظ في القرن التاسع الميلادي، والذي وضعناه في غرّة هذا المقال، فأخذوا يلجؤون إلى حيث يُرزقون، واعتزلوا قيود صناعة الفن والمستغلين فيها، ومضوا إلى عالم افتراضي يحسّن لهم عالم الواقع، ففيه يبيعون الأعمال الفنية، ويحافظون على ملكية الحقوق الفكرية، ويعبّرون عن فنهم بعيداً عن كلمة “ممنوع” ويتجاوزون المحظور، ويطلقون العنان لإنتاج المزيد، ويتواصلون بعضهم ببعض ويتبادلون الأفكار ويلهمون ويستلهمون، وكأن الطوبائية سيد هذه المدينة الافتراضية الفاضلة بكل ما فيها من مثالية ويوتوبيا يحلمون بها، لأنه ببساطة عالمٌ لا مركزي مبني بالتناغم مع ملامح عملاتٍ مشفرةٍ لا مركزية، ورواده توّاقون للحرية.

إلى أين تمضي صكوك NFT؟

يذهب البعض إلى أن الأمر برمّته محضُ فُقاعة ستنفجر يوماً، وتحوم الشكوك حوله، تماماً كما نُظِر إلى العملات الرقمية قبل أكثر من عشر سنوات، بل وإلى اليوم ثمة آراء مناهضة لفكرة لا مركزية هذه العملات والشبكات بالرغم من الأرباح التي حققها طيف واسع من المتداولين، لكن على الجهة الأخرى هنالك آخرون يقولون بديمومة هذا الفضاء الجديد خصوصاً وأن كُبرى الشركات المنتجة والاستثمارية والمشاهير والشخصيات المعروفة باتوا لا يألون جهداً في الاستثمار في هذا القطاع، فهل هم غافلون عن مآلات انفجار هذه الفقاعة قبل التوجه إليها؟!

وحسب ما التمست شخصياً، فثمة رأيٌ ثالث يعتقد أن هذا السوق سيكبر إلى حد معين، وأن حدثاً ما كأزمة اقتصادية عالمية أو تشريعات وقوانين حكومية أو ربما قيام حرب مؤثرة عسكرية كانت أو تجارية، سيلقي بظلاله على هذا السوق فينكمش ويعيش مرحلة ركود لفترة بين سنة أو اثنتين، ثم ينهض من جديد، وقد يطرأ عليه بعض التغييرات مثل سنّ بعض القوانين أو ربطه بعملات مركزية أو ما شابه، أو أن يبقى دون تغيير جوهري، ليتابع مسيره لأن الاحتياج إليه سيكبر مع نهوض جيل جديد من الشباب ودخول المزيد من الرواد إليه، والمؤشرات اليوم فيه نحو الارتفاع، وهذا ما ألمح إليه بعض الضليعين بالمجال ومن رواده ومن أكبر مستثمريه مثل غاري فاينرتشوك Gary Vaynerchuk .

رؤية شبكات التواصل الاجتماعي

وعطفاً على ما سلف، فتبدو جدية هذا الأمر بالغة لدرجة أن تخطو شبكات التواصل الاجتماعي تجاه عالم الميتافيرس وما فيه من صكوك، وإن لم تفعل فسيكون مصيرها الإنحسار أمام تمدد الميتافيرس الذي يجمع الناس ولا يمس بخصوصية البيانات الشخصية، ففيسبوك أصبحت “ميتا” Meta كما ذكرنا، وتويتر بدأ بإعادة صياغة بعض جوانب منصتها لتتناغم وتتوافق مع احتياجات عالم الصكوك غير القابلة للاستبدال NFT وسمحوا بربط المحافظ الإلكترونية بالحسابات، وذلك لتسهيل الإجراءات وتداول المعلومات حول هذا المضمار، وهي أكثر شبكة تواصل اجتماعي يرتادها معشر الـNFT والميتافيرس.

وختاماً، يبدو أن مقدمة كتاب الجاحظ، الذي يُقال أنه انتقل إلى ذمة الله جرّاء سقوط رفوف من الكتب الورقية عليه، تسري على أيامنا هذه ويُحتذى بها في هذا العصر الذي يجتمع فيه العرب والعجم في عوالم افتراضية، ولربما كان لجحوظ عيني صاحبنا أبو عثمان عمرو بن بحر البصري مَلَكة أورثتنا تبصّره في تجارة زماننا أيضاً، لكن هل نَستبصر نحن اليوم مثله ما سيعقب عصر الميتافرس بعد أجيال؟ ليس لدي إجابة الآن، لكن ما أراه اليوم هو أن الفنانين والمصورين قد فتحوا أعينهم على عالمٍ التمسوا فيه الرخاء والحرية، والكتبُ الرقمية على رفوف الميتافيرس وشبكات سلاسل الكُتل لا تُحيق أي خطرٍ بالقرّاء فيه.